فصل: النوع الثاني والعشرون: في المبادي والافتتاحات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثاني والعشرون: في المبادي والافتتاحات:

هذا النوع هو أحد الأركان الخمسة البلاغية المشار إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب.
وحقيقة هذا النوع: أن يجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالا على المعنى المقصود من ذلك الكلام: إن كان فتحا ففتحا، وإن كان هناء فهناء، أو كان عزاء فعزاء، وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني.
وفائدته أن يعرف من مبدأ الكلام ما المراد به ولم هذا النوع.
والقاعدة التي يبني عليها أساسه أنه يجب على الشاعر إذا نظم قصيدا أن ينظر، فإن كان مديحا صرفا لا يختص بحادثة من الحوادث فهو مخير بين أن يفتتحها بغزل أو لا يفتتحها بغزل، بل يرتجل المديح ارتجالا من أولها كقول القائل:
إن حارت الألباب كيف تقول ** في ذا المقام فعذرها مقبول

سامح بفضلك مادحيك فما لهم ** أبدا إلى ما تستحق سبيل

إن كان لا يرضيك إلا محسن ** فالمحسنون إذا لديك قليل

فإن هذا الشاعر ارتجل المديح من أول القصيدة فأتى به كما ترى حسنا لائقا.
وأما إذا كان القصيد في حادثة من الحوادث، كفتح مقفل أو هزيمة جيش أو غير ذلك، فإنه لا ينبغي أن يبدأ فيها بغزل، وإن فعل ذلك دل على ضعف قريحة الشاعر وقصوره عن الغاية، أو على جهله بوضع الكلام في مواضعه.
فإن قيل: إنك قلت: يجب على الشاعر كذا وكذا فلم ذلك؟ قلت في الجواب إن الغزل رقة محضة، والألفاظ التي تنظم في الحوادث المشار إليها من فحل الكلام ومتين القول، وهي ضد الغزل، وأيضا فإن الأسماع تكون متطلعة إلى ما يقال في تلك الحوادث والابتداء بالخوض في ذكرها لا الابتداء بالغزل إذ المهم واجب التقديم.
ومن أدب هذا النوع ألا يذكر الشاعر في افتتاح قصيدة المديح ما يتطير منه، وهذا يرجع إلى أدب النفس، لا إلى أدب الدرس، فينبغي أن يحترز منه في مواضعه، كوصف الديار بالدثور والمنازل بالعفاء، وغير ذلك من تشتت الآلاف وذم الزمان لا سيما إذا كان في التهاني، فإنه يكون أشد قبحا، وإنما يستعمل ذلك في الخطوب النازلة والنوائب الحادثة، ومتى كان الكلام في المديح مفتتحا بشيء من ذلك تطير منه سامعه.
وإنما خصت الاتبداءات بالاختيار لأنها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفرت الدواعي على استماعه، ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن الكريم، كالتحميدات المفتتح بها في أوائل السور، وكذلك الابتداءات بالنداء كقوله تعالى في مفتتح سورة النساء: {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} وكقوله تعالى في أول سورة الحج: {يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} فإن هذا الابتداء مما يوقظ السامعين للإصغاء إليه، وكذلك الابتداءات بالحروف كقوله تعالى: {ألم} و{طس} و{حم} وغير ذلك، فإن هذا أيضاً مما يبعث على الاستماع إليه لأنه يقرع السمع شيء غريب ليس له بمثله عادة، فيكون ذلك سببا للتطلع نحوه والإصغاء إليه.
ومن قبيح الابتداءات قول ذي الرمة:
ما بال عينك منها الماء ينسكب

لأن مقابلة الممدوح بهذا الخطاب لا خفاء بقبحه وكراهته.
ولما أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا

قال له عند ذلك: لا، بل منك، وتطير من قوله، فغيرها ذو الرمة، وقال:
خف القطين فراحوا اليوم أو بكروا

ومن شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعره فليتأدب بأدب القطامي على جفاء طبعه، وبعده عن فطانة الأدب فإنه قال:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل

فبدأ قبل ذكر الطلل بذكر التحية والدعاء له بالسلامة، وقد قيل: إن امرأ القيس كان يجيد الابتداء كقوله:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي

وكقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

ومما يكره من الابتداءات قول أبي تمام:
تجرع أسى قد أقفر الجرع الفرد

وإنما ألقى أبا تمام في مثل هذا المكروه تتبعه للتجنيس بين تجرع والجرع، وهذا دأب الرجل، فإنه كثيراً ما يقع في مثل ذلك: وكذلك استقبح قول البحتري:
فؤاد ملاه الحزن حتى تصدعا

فإن ابتداء المديح بمثل هذا طيرة ينبو عنها السمع، وهو أجدر بأن يكون ابتداء مرئية لا مديح، وما أعلم كيف يخفى على مثل البحتري وهو من مفلقي الشعراء.
وحكي أنه لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه وجمع أهله وأصحابه، وأمرهم أن يخرجوا في زينتهم، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذن إسحق بن إبراهيم الموصلي في الإنشاد، فأذن له، فأنشد شعرا حسنا أجاد فيه، إلا أنه استفتحه بذكر الديار وعفائها فقال:
يا دار غيرك البلى ومحاك ** يا ليت شعري ما الذي أبلاك

فتطير المعتصم بذلك، وتغامز الناس على إسحق بن إبراهيم كيف ذهب عليه مثل ذلك مع معرفته وعلمه وطول خدمته للملوك، ثم أقاموا يومهم وانصرفوا، فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس وخرج المعتصم إلى سر من رأى، وخرب القصر.
فإذا أراد الشاعر أن يذكر دارا في مديحه فليذكر كما ذكر أشجع السلمي حيث قال:
قصر عليه تحية وسلام ** خلعت عليه جمالها الأيام

وما أجدر هذا البيت بمفتتح شعر إسحق بن إبراهيم الذي أنشده للمعتصم، فإنه لو ذكر هذا أو ما جرى مجراه لكان حسنا لائقا.
وسئل بعضهم عن أحذق الشعراء فقال: من أجاد الابتداء والمطلع، ألا ترى إلى قصيدة أبي نواس التي أولها:
يا دار ما فعلت بك الأيام ** لم تبق فيك بشاشة تستام

فإنها من أشرف شعره وأعلاه منزلة، وهي مع ذلك مستكرهة الابتداء، لأنها في مدح الخليفة الأمين، وافتتاح المديح بذكر الديار ودثورها مما يتطير منه، لا سيما في مشافهة الخلفاء والملوك.
ولهذا يختار في ذكر الأماكن والمنازل ما رق لفظه وحسن النطق به، كالعذيب والغوير ورامة وبارق والعقيق، وأشباه ذلك.
ويختار أيضاً أسماء النساء في الغزل نحو سعاد وأميم وفوز، وما جرى هذا المجرى.
وقد عيب على الأخطل في تغزله بقذور، وهو اسم امرأة، فإنه مستقبح في الذكر، وقد عيب على غيره التغزل باسم تماضر، فإنه وإن لم يكن مستقبحا في معناه فإنه ثقيل على اللسان، كما قال البحتري:
إن للبين منة لا تؤدى ** ويدا في تماضر بيضاء

فتغزله بهذا الاسم مما يشوه الغزل، ويثقل من خفته، وأمثال هذه الأشياء يجب مراعاتها والتحرز منها.
وقد استثنى من ذلك ما كان اسم موضع تضمن وقعة من الوقائع، فإن ذكره لا يكره، وإن كان في اسمه كراهة، كما ذكر أبو تمام في شعره مواضع مكروهة الأسماء لضرورة ذكر الوقائع التي كانت بها، كذكر الحشال وعقوقس وأمثالهما، وكذلك ذكر أبو الطيب المتنبي هنزيط وشميصاط وما جرى مجراهما، وهذا لا عيب في ذكره لمكان الضرورة التي تدعو إليه، وهكذا يسامح الشاعر والكاتب أيضاً في ذكر ما لا بد من ذكره وإن قبح، ومهما أمكنه من التورية في هذا المقام فليسلكها، وما لا يمكنه فإنه معذور فيه.
واعلم أنه ليس من شرط الابتداء ألا يكون مما يتطير منه فقط، فإن من الابتداءات ما يستقبح وإن لم يتطير منه، كقول أبي تمام:
قدك اتئب أربيت في الغلواء

وكقوله:
تقي جماتي لست طوع مؤنبي

وكقول أبي الطيب المتنبي:
أقل فعالي بله أكثره مجد

وكقوله:
كفي أراني ويك لومك ألوما

والعجب من هذين الشاعرين المفلقين يبتدئان بمثل ذلك ولهما من الابتداءات الحسنة ما أذكره.
أما أبو تمام فإنه افتتح قصيدته التي مدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية فقال:
السيف أصدق أنباء من الكتب ** في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في ** متونهن جلاء الشك والريب

وهذه الأبيات لها قصة، وذاك أنه لما حضر المعتصم مدينة عمورية زعم أهل النجامة أنها لا تفتح في ذلك الوقت، وأفاضوا في هذا، حتى شاع، وصار أحدوثة بين الناس، فلما فتحت بنى أبو تمام مطلع قصيدته على هذا المعنى، وجعل السيف أصدق من الكتب التي خبرت بامتناع البلد واعتصامها، ولذلك قال فيها:
والعلم في شهب الأرماح لامعة ** بين الخميسين لا في السبعة الشهب

أين الرواية أم أين النجوم وما ** صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

تخرصا وأحاديثا ملفقة ** ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

وهذا من أحسن ما يأتي في هذا الباب.
وكذلك قوله في أول قصيدة يمدحه بها أيضا، ويذكر فيها خروج بابك الخرمي عليه، وظفره به، وهي من أمهات شعره، فقال:
الحق أبلج والسيوف عوار ** فحذار من أسد العرين حذار

وكذلك قوله متغزلا:
عسى وطن يدنو بهم ولعلما ** وأن تعتب الأيام فيهم فربما

وهذا من الأغزال الحلوة الرائقة، وهو من محاسن أبي تمام المعروفة.
وكذلك قوله في أول مرثية:
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا ** وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا

وأما أبو الطيب فإنه أكثر من الابتداءات الحسنة في شعره، كقوله في قصيدة يمدح بها كافورا، وكان قد جرت بينه وبين ابن سيده نزغة، فبدأ قصيدته بذكر الغرض المقصود فقال:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ** وأذاعته ألسن الحساد

وهذا من بديع الابتداء ونادره.
وكذلك ورد قوله في سيف الدولة، وكان ابن الشمشقيق حلف ليلقينه كفاحا، فلما التقيا لم يطق ذلك، وولى هاربا، فافتتح أبو الطيب قصيدته بفحوى الأمر فقال:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ** ماذا يزيدك في إقدامك القسم

وفي اليمين على ما أنت واعده ** ما دل أنك في الميعاد متهم

وكذلك قوله وقد فارق سيف الدولة وسار إلى مصر، فجمع بين ذكر فراقه إياه ولقائه كافورا في أول بيت من القصيدة، فقال:
فراق ومن فارقت غير مدمم ** وأم ومن يممت خير ميمم

ومن البديع النادر في هذا الباب قوله متغزلا في مطلع قصيدته القافية وهي:
أتراها لكثرة العشاق ** تحسب الدمع خلقة في المآقي

وله مواضع أخر كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.
ومن محاسن الابتداءات التي دلت على المعنى من أول بيت في القصيدة ما قرأته في كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، فإنه ذكر غزوة غزاها الرشيد هارون رحمه الله في بلاد الروم، وأن نقفور ملك الروم خضع له، وبذل الجزية، فلما عاد عنه واستقر بمدينة الرقة وسقط الثلج نقض نقفور العهد، فلم يجسر أحد على إعلام الرشيد، لمكان هيبته في صدور الناس، وبذل يحيى بن خالد للشعراء الأموال على أن يقولوا أشعارا في إعلامه، فكلهم أشفق من لقائه بمثل ذلك، إلا شاعرا من أهل جدة يكنى أبا محمد، وكان شاعرا مفلقا، فنظم قصيدة وأنشدها الرشيد أولها:
نقض الذي أعطيته نقفور ** فعليه دائرة البوار تدور

أبشر أمير المؤمنين فإنه ** فتح أتاك به الإله كبير

نقفور إنك حين تغدرا نأى ** عنك الإمام لجاهل مغرور

أظننت حين غدرت أنك مفلت ** هبلتك أمك ما ظننت غرور

فلما أنهى الأبيات قال الرشيد: أو قد فعل؟ ثم غزاه في بقية الثلج وفتح مدينة هرقلة.
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصبهاني ما رواه من شعر سديف في تحريض الخليفة السفاح رحمه الله على بني أمية، فقال: قدم سديف من مكة إلى الحيرة، والسفاح بها، ووافق قدومه جلوس السفاح للناس، وكان بنو أمية يجلسون عنده على الكراسي تكرمة لهم، فلما دخل عليه سديف حسر لثامه، وأنشده أبياتا من الشعر، فالتفت رجل من أولاد سليمان بن عبد الملك وقال لآخر جانبه قتلنا والله العبد، فلما أنهى الأبيات أمر بهم السفاح فأخرجوا من بين يديه وقتلوا عن آخرهم، وكتب إلى عماله بالبلاد يأمرهم بقتل من وجدوه منهم ومن الأبيات:
أصبح الدين ثابتا في الأساس ** بالبهاليل من بني العباس

أنت مهدي هاشم وهداها ** كم أناس رجوك بعد إياس

لا تقيلن عبد شمس عثارا ** واقطعن كل رقلة وغراس

أنزلوها بحيث أنزلها الله ** بدار الهوان والإتعاس

خوفهم أظهر التودد فيهم ** وبهم منكم كحز المواسي

أقصهم أيها الخليفة واحسم ** عنك بالسيف شأفة الأرجاس

واذكرن مصرع الحسين وزيد ** وقتيلا بجانب المهراس

ولقد ساءني وساء سوائي ** قربهم من منابر وكراسي

وهذه الأبيات من فاخر الشعر ونادره افتتاحا وابتداء وتحريضا وتأليبا، ولو وصفتها من الأوصاف ما شاء الله وشاء الإسهاب والإطناب لما بلغت ما لها من الحسن.
ومن لطيف الابتداءات ما ذكره مهيار وهو:
أما وهواها عذرة وتنصلا ** لقد نقل الواشي إليها فأمحلا

سعى جهده لكن تجاوز حده ** وكثر فارتابت ولو شاء قللا

فإنه أبرز الاعتذار في هيئة الغزل، وأخرجه في معرض النسيب، وكان وشي به إلى الممدوح فافتتح قصيدته بهذا المعنى فأحسن.
ومما جاء على نحو من ذلك قول بعض المتأخرين من العراقيين:
وراءك أقوال الوشاة الفواجر ** ودونك أحوال الغرام المخامر

ولولا ولوع منك بالصد ما سعوا ** ولولا الهوى لم أنتدب للمعاذر

فسلك في هذا القول مسلك مهيار، إلا أنه زاد عليه زيادة حسنة، وهي المعاتبة على الإصغاء إلى أقوال الوشاة والاستماع منهم، وذلك من أغرب ما قيل في هذا المعنى.
ومن الحذاقة في هذا الباب أن تجعل التحميدات في أوائل الكتب السلطانية مناسبة لمعاني تلك الكتب، وإنما خصصت الكتب السلطانية دون غيرها لأن التحاميد لا تصدر في غيرها، فإنها تكون قد تضمنت أمورا لائقة بالتحميد، كفتح مقفل، أو هزيمة جيش، أو ما جرى هذا المجرى.
ووجدت أبا إسحاق الصابي على تقدمه في فن الكتابة قد أخل بهذا الركن الذي هو من أوكد أركان الكتابة فإذا أتى بتحميدة في كتاب من هذه الكتب لا تكون مناسبة لمعنى ذلك الكتاب، وإنما تكون في واد والكتاب في واد، إلا ما قل من كتبه.
فما خالف فيه مطلع معناه أنه كتب كتابا يتضمن فتح بغداد وهزيمة الأتراك عنها، وكان ذلك فتحا عظيما فابتدأ بالتحميد، فقال: الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، الوحيد الفريد، العلي المجيد، الذي لا يوصف إلا بسلب الصفات، ولا ينعت إلا برفع النعوت، الأزلي بلا ابتداء الأبدي بلا انتهاء، القديم لا منذ أمد محدود، الدائم لا إلى أجل معدود، الفاعل لا من مادة استمدها ولا بآلة استعملها، الذي لا تدركه الأعين بلحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها، ولا تضارعه الأجسام بأقطارها، ولا تجانسه الصور بأعراضها، ولا تجاريه أقدام النظر أو الأشكال، ولا تزاحمه مناكب القرناء والأمثال، بل هو الصمد الذي لا كفء له، والفذ الذي لا توأم معه، والحي الذي لا تخرمه المنون، والقيوم الذي لا تشغله الشئون، والقدير الذي لا تئوده المعضلات، والخبير الذي لا تعييه المشكلات.
وهذه التحميدة لا تناسب الكتاب الذي افتتح بها، ولكنها تصلح أن توضع في صدر مصنف من مصنفات أصول الدين، ككتاب الشامل للجويني، أو كتاب الاقتصاد، أو ما جرى مجراهما، وأما أن توضع في صدر كتاب فتح فلا.
وهو وإن ساء في هذا الموضع فقد أحسن في مواضع أخر، وذاك أنه كتب كتابا عن الخليفة الطائع رحمه الله تعالى إلى الأطراف عند عوده إلى كرسي ملكه، وزوال ما نزل به وبأبيه المطيع رحمه الله من فادحة الأتراك، فقال: الحمد لله ناظم الشمل بعد شتاته، وواصل الحبل بعد بتاته، وجابر الوهن إذا ثلم، وكاشف الخطب إذا أظلم، والقاضي للمسلمين بما يضم نشرهم، ويشد أزرهم، ويصلح ذات بينهم، ويحفظ الألفة عليهم، وإن شابت ذلك في الأحيان الشوائب من الحدثان فلن يتجاوز بهم الحد الذي يوقظ غافلهم، وينبه ذاهلم، ثم إنهم عائدون إلى فضل ما أولاهم الله وعودهم، ووثق لهم ووعدهم، من إيمان سربهم وإذاب شربهم، وإعزاز جانبهم، وإذلال مجانبهم، وإظهار دينهم على الدين كله ولو كره المشركون.
وهذه تحميدة مناسبة لموضوع الكتاب، وإن كانت المعاني فيها مكررة كالذي أنكرته عليه وعلى غيره من الكتاب، وقدمت القول فيه في باب السجع، فليؤخذ من هناك.
ومن المبادي التي قد أخلقت وصارت مزدراة أن يقال في أوائل التقليدات، إن أحق الخدم بأن ترعى خدمة كذا وكذا، وإن أحق من قلد الأعمال من اجتمع فيه كذا وكذا، فإن هذا ليس من المبادي المستحسنة، ومن استعمله أولاً فقد ضعفت فكرته عن اقتراح ما يحسن استعماله من المبادئ، والذي تبعه في ذلك إما مقلد ليس عنده قوة على أن يختار لنفسه، وإما جاهل لا يفرق بين الحسن والقبيح والجيد والرديء وأهل زماننا هذا من الكتاب قد قصروا مبادي تقاليدهم على هذه الفاتحة دون غيرها، وإن أتوا بتحميدة من التحاميد كانت مباينة لمعنى التقليد الذي وضعت في صدره، وكذلك قد كان الكتاب يستعملون في التقليدات مبدأ واحدا لا يتجاوزونه إلى غيره، وهو هذا ما عهد فلان إلى فلان والتحميد خير ما افتتح به التقليدات وكتب الفتوح وما جرى مجراهما، وقد أنكرت ذلك على مستعمله في مفتتح تقليد أنشأته بولاية وال فقلت: كانت التقليدات تفتتح بكلام ليس بذي شأن، ولا يوضع في ميزان، ولا يجتنى من أفنان، وغاية ما يقال هذا ما عهد فلان إلى فلان، وتلك الفاتحة لم تكن جديدة فتخلق بتطاول الأيام، ولا حسنة النظم فيضاهى بمثلها من ذوات النظام، وهذا التقليد مفتتح بحمد الله الذي تكفل لحامده بالزيادة، وبدأ النعمة ثم قرنها من فضله بالإعادة، وهو الذي بلغ بنا من مآرب الدنيا منتهى الإرادة، وسلم إلينا مقاده فذلل لنا بها كل مقادة، ووسد الأمر منا إلى أهله فاستوطأت الرعايا منه على وسادة، ونرجو أن يجمع لنا بين سعادة الأولى والأخرى حتى تتصل هذه السعادة بتلك السعادة، ثم نصلى على نبيه محمد الذي ميزه الله على الأنبياء بشرف السيادة، وجعل انشقاق القمر له من آيات النبوة وانشقاق الإيوان من آيات الولادة، وعلى آله وأصحابه الذين شادوا الدين من بعده فأحسنوا في الإشادة، وبسطت عليهم الدنيا كما بسطت على الذين من قبلهم فلم يحولوا عن خلق الزهادة، أما بعد كذا وكذا، ثم أنهيت التقليد إلى آخره.
ومن الحذاقة في هذا الباب أن يجعل الدعاء في أول الكتاب من السلطانيات والإخوانيات وغيرهما مضمنا من المعنى ما بني عليه ذلك الكتاب، وهذا شيء انفردت بابتداعه، وتراه كثيراً فيما أنشأته من المكاتبات، فإني توخيته فيها وقصدته.
فمن ذلك ما كتبته في الهناء بفتح، وهو: هذا الكتاب مشافه بخدمة الهناء للمجلس السامي الفلاني جدد الله له في كل يوم فتحا، وبدل عرش كل ذي سلطان لديه صرحا، وجعل كل موقف من مواقف جوده وبأسه يوم فطر ويوم أضحى، وكتب له على لسان الإسلام ولسان الأيام ثناء خالدا ومدحا، وأسكنه بعد العمر الطويل دارا لا يظمأ فيها ولا يضحى، ثم أخذت بعد ذلك في إنشاء الكتاب المتضمن ما يقتضيه معاني ذلك الفتح.
ومن ذلك ما ذكرته في الهناء بمولود، وهو جدد الله مسرات المجلس السامي الفلاني ووصل صبوح هنائه بغبوقه، وأمتعه بسليله المبشر بطروقه، وأبقاه حتى يستضيء بنوره ويرمي عن فوقه، وسربه أبكار المعاني حتى تخلق أعطافها بخلوقه، وجعله كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، ثم أخذت في إتمام الكتاب بالهناء بالمولود على حسب ما اقتضاه ذلك المعنى.
فتأمل ما أوردته هاهنا من هذين المثالين، وانسج على منوالهما فيما تقصده من المعاني التي تبني عليها كتبك، فإن ذلك من دقائق هذه الصناعة.
وأما فواتح الكتب التي أنشأتها فمنها ما اخترعته اختراعا ولم أسبق إليه، وهي عدة كثيرة وقد أوردت هاهنا بعضها.
فمن ذلك مفتاح كتاب إلى ديوان الخلافة، وهو: نشأت سحابة من سماء الديوان العزيز النبوي جعل الله الخلود لدولته أوطانا، والحدود لها أركانا، ونصب أيامها في أيام الدهر أحيانا، وصورها في وجهه عينا وفي عينه إنسانا، ومد ظلها على الناس عدلا وإحسانا، وجمع الأمم على دين طاعتها وإن تفرقوا أديانا، وأتاها من معجزات سلطانه ما لم ينزل به لغيرها سلطانا، فارتاح الخادم لالتقائها، وبسط يده لاستسقائها، وقال: رحمة مرسلة لا تخشى رعودها، ولا تخلف وعودها، ومن شأنها ترويض الصنائع التي تبقي آثارها، لا الحمائل التي تذوي أزهارها، وقد يعبر عن الكتاب ونائله، بالسحاب ووابله، فإن صدر عن يد كيد الديوان العزيز فقد وقع التشبيه موقع الصواب، وصدق حينئذ قول القائل: إن البحر عنصر السحاب، لكن فرق بين ما يجود بمائه، وما يجود بنعمائه، وبين ما يسم الأرض الماحلة، وبين ما يسمي الأقدار الخاملة، وما زالت كتب الديوان العزيز تضرب لها الأمثال، وتصرف نحوها الآمال، ويرى الحسد فيها حسدا، وإن عد في غيرها من سييء الأعمال وهذا فصل من أول الكتاب.
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وأرسلته إليه من الموصل إلى أرض الشمال من بلاد الروم، وهو طلع كوكب من أفق المجلس السامي لا خلت سيادته من عدو وحاسد، ولا شينت بتوأم يخرجها عن حكم الواحد، ولا عدمت صحبة الجدود المتيقظة في الزمن الراقد، ولا أوحشت الدنيا من ذره الخالدد الذي هو عمر خالد، ولا زال مرفوعا إلى المحل الذي يعلم به أن الدهر للناس ناقد، والكواكب تختلف مطالعها في الشمال والجنوب، فمنها ما يطلع دائما في أحدهما وهو في الآخر دائم الغروب، وكتاب المجلس كوكب لم ير بهذه الأرض مطلعه، وإن علم من السماء أين موضعه، ولما ظهر الآن للخادم سبح له حامدا، وخر له ساجدا، وقال: قد عبدت الكواكب من قبلي فلا عجب أن أكون لهذا الكوكب عابدا، وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى، وقال الناس: هذا ابن كبشة الكتاب لا ابن كبشة الشعري.
وهذا مطلع غريب، والسياقة التالية لمطلعه أغرب، ومن أغرب ما فيها قولي وها أنا قد أصبحت بالعكوف على عبادته مغرى، وقال الناس هذا ابن كبشة الكتاب لا ابن كبشة الشعري والمراد بذلك أن ابن كبشة كان رجلا في الجاهلية يعبد الشعري فخالف بذلك دين قومه، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قالت قريش: هذا قد خالف ديننا، وسموه ابن أبي كبشة أي أنه قد خالفنا كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعري، فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتابي هذا فجاء كما تراه مبتدعا غريبا.
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان بالشام، وهو: طلعت من الغرب شمس فقيل: قد آذنت أشارط الساعة بالاقتراب، ولم يعلم أن تلك الأنوار إنما هي أنوار الكتاب، لم يألف الأبصار من قبله أن تطلع الشمس من المغرب، وليس ذلك إلا كتاب المجلس لا سلبه الله مزية هذا الوصف الكريم، وأتاه من الفضل ما يقال معه وفوق كل ذي علم عليم، وأحيا النفوس من كلمها بروح كلمه كما شفي غليلها من أقلامه بسقيا الكليم، ولما ورد عن الخادم صار ليله نهارا، وأصبح الناس في الحديث به أطوارا، والمنصف منهم يقول: قد جرت الشمس إلى مستقرها والشمس لا تجد قرارا.
وهذا الكتاب في الحسن والغرابة كالذي قبله.
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وهو: تأوب زور من جانب المجلس السامي أدنى الله داره، وجعل كلماته التامة جاره، وأشهد أفعال التقوى ليله وأفعال المكارم نهاره، ووهبه من أعوام العمر طواله ومن أعوام العيش قصاره، ولا أقدر السابقين إلى المعالي أن يجروا معه ولا أن يشقوا غباره، وليس ذلك الزور إلا سطورا في قرطاس ولا فرق بين الكتاب وبين مرسله في ملاطفة الإيناس، والله لا يصغر ممشى هذا الزائر، ويقر عيني برؤيته حتى لا أزال به قرير الناظر، ومع هذا فإني عاتب لتأخره وهاهنا مظنة العتاب، ومن تأخر عنه كتاب صديقه فلا بد أن يخطر له خاطر الارتياب، والضنين بالمودة لا يرى إلا ظنينا، وقد قيل إنها وديعة وقليلا ما تجد على الودائع أمينا.
وهذا فصل من أول الكتاب.
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان، وهو: سنحت روضة من جانب المجلس السامي جعل الله المعالي له رداء، ونهايات المساعي له ابتداء، وفداه بمن يقصر عن درجته حتى تكون الأكارم له فداء، وهدى المحامد لأفعاله وأهدى البقاء لأيامه حتى يجتمع له الأمران هدى وإهداء، وأتاه من السيادة ما يجعل أعداءه أصادق ومن السعادة ما يجعل أصدقاءه أعداء، فاستنشق الخادم رباها، وتلقى بالتحية محياها، واستمتع بأزهارها التي أنبتها سقيا الأقلام لا سقي الغمام، وقال: هذا ربيع الأرواح لا ربيع الأجسام، ولو رام الإحاطة بوصفها لكانت الأقوال المطولة فيها مختصرة، ولكنه اكتفى بأن رفعها على رأسه حتى يتمثل أن الجنة في شجرة، ومن أوصافها أنها جاءت رائدة ومن شأن الروض أن يرتاد، وحلت محاسنها التي هي في غيرها من حظ البصر وفيهما من حظ السمع والبصر والفؤاد، ولما سرح فيها نظره وجد شوقه حمامة تغرد في أكنافها، وتردد الشجى لبعد أليفها إذا رددته الحمائم لقرب ألافها، وهذا قول له عند إخوان الصفاء علامة، وإذا تمثل كتاب الحبيب روضة فهل يتمثل شوق محبه إلا حمامة، وأي فرق بين هذه وبين أخواتها من ذوات الأطواق؟ لولا أنها تملي شجوها على صفحات القلوب وتلك تمليه على عذبات الأوراق.
وهذا فصل من الكتاب، وهو غريب عجيب وفيه معنيان مبتدعان، وأعجبهما وأغربهما قولي: حتى يتمثل أن الجنة في شجرة وهذا مستخرج من الحديث النبوي.
ومن جملة الكتب المشار إليها مفتتح كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وهو: تضوعت نفحة من تلقاء المجلس السامي رعى الله عهده وسقاه، وصان وده ووفاه، ويسر لي إلقاء العصا بملقاه، فعطرت الطريق التي سايرتها، والريح التي جاورتها، وأتت فأفرشتها خدي، وضممت عليها ودي، وجعلتها درعا لجيبي ولطيمة لردني وسخابا لعقدي، وعلمت أنها ليست بنفحة طيب، ولكنها كتاب حبيب، فإن مناشق الأرواح غير مناشق الأجسام، ولا يستوي عرف الطيب وعرف الأقلام، ثم مددت يدي إلى الكتاب بعد أن صافحت يد موصله، كما صافحت عبقة مندله، وقلت أهلا بمن أدنى من الحبيب مزارا، وأهدى لعيني قرة ولقلبي قرارا.
وهذا في الغرابة كأخواته التي تقدمت.
ولم أستقص ما اخترعته من هذا الباب في مطالع الكتب.
وأما ما أتيت به بالحسن من المعاني ولكنه غير مخترع، فمن ذلك مطلع كتاب كتبته عن الملك نور الدين أرسلان بن مسعود صاحب الموصل إلى الملك الأفضل علي بن يوسف يتضمن تعزية وتهنئة: أما التعزية فبوفاة أخيه الملك العزيز عثمان صاحب مصر، وأما التهنئة فبوراثة الملك من بعده، وهو: لا يعلم القلم أينطق بلسان التعزية أم بلسان التهنئة، لكنه جمعهما جميعاً فأتى بهما على حكم التثنية، وفي مثل هذا الخطب يظل القلم حائرا، وقد وقف موقف السخط والرضا فسخط أولاً ثم رضي آخرا، وهذا البيت الناصري يتداول درجات العلى فما تمضي إلا وإليه ترجع، وشموسه وأقماره تتناقل مطالع السعود فما يغيب منها غائب إلا وآخر يطلع، والناس إن فجعوا بماجد ردفه من بعده ماجد، وإن قيل إن الماضي كان واحدا قيل بل الآتي هو الواحد.
وهذا فصل من أول الكتاب، ثم كتبت في هذا المعنى كتابين آخرين، وفي الذي أوردته من هذا الفصل مقنع.
ومن هذا الأسلوب ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه، وكانت الكتب قد انقطعت بيني وبينه زمانا، وهو: لقاء كتب الأحباب كلقاء الأحباب، وقد يأتي بعد يأس منها فيشتبه لها دمع السرور بدمع الاكتئاب، ومن أحسنها كتاب المجلس السامي الفلاني جعل الله الليالي له صحبا والمعاني له عقبا، ورفع مجده فوق كل ماجد حتى تكون حسناتهم لدى حسناته ذنبا، ولا زال اسمه في الأفواه عذبا وذكره في الألسنة رطبا، ووده لكل إنسان إنسانا ولكل قلب قلبا.
ثم انتهيت إلى آخر الكتاب على هذا النسق، وإنما ذكرت هاهنا مبتدأه لأنه الغرض المقصود في هذا الموضع.
ومن ذلك ما كتبته إلى بعض الإخوان جوابا عن كتابه، وهو: البشرى تعطى للكتاب كما تعطى لمرسله، وكل منهما يوفى حق قدره وينزل في منزله، وكذلك فعل الخادم بكتاب المجلس السامي الفلاني لا زال محله أنيسا، وذكره للفرقدين جليسا، وسعيه على المكارم حبيسا، ومجده جديد الملابس إذا كان المجد لبيسا.
وهاهنا ذكرت من هذا الكتاب كما ذكرته من الذي قبله فإني لم أذكر إلا مبدأه الذي هو الغرض.
ومما ينتظم في هذا السلك ما كتبته في صدر كتاب يتضمن تعزية، وهو: لو لم يلبس قلمي ثوب الحداد لهجر مداده، ونضي عنه سواده، وبعد عن قرينته، وعاد إلى طينته وحرم على نفسه أن يمتطي يدا، أو يجري إلى مدى، لكنه أحد فندب، وبكى فسكب، وسطر هذا الكتاب من دموعه، وضمنه ما حملته أحناء ضلوعه، وإنما استعار ذلك من صاحبه الذي أعداه، وأبدى إليه من حزنه ما أبداه، وهو نائب في تعزية سيدنا أحسن الله صبره، ويسر أمره، وأرضى عنه دهره، ثم أنهيت الكتاب إلى آخره.
ومن محاسن هذا الباب أن يفتتح الكتاب بآية من القرآن الكريم، أو بخبر من الأخبار النبوية، أو ببيت من الشعر، ثم يبني الكتاب عليه.
فمن ذلك ما كتبته في ابتداء كتاب يتضمن البشرى بفتح، وهو:
ومن طلب الفتح الجليل فإنما ** مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم

وقد أخذنا بقول هذا الشاعر الحكيم، وجعلنا السيف وسيلة إلى استنتاج الملك العقيم، وراية المجد لا تنصب إلا على النصب، والراحة الكبرى لا تنال إلا على جسر من التعب، وكتابنا هذا وقد استولينا على مملكة فلانة، وهي المملكة التي تمسي الآمال دونها صرعى، وإذا قيس إليها غيرها من الممالك كانت أصلا وكان غيرها فرعا، وهذا فصل من أول الكتاب.
ومن ذلك ما كتبته في مفتتح تقليد بالحسبة، وهو: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} هذا أمر يشتمل على معنى الخصوص دون العموم، ولا يختص به إلا ذوو الأوامر المطاعة وذوو العلوم وقد جمع الله لنا هذين الوصفين كليهما، وجعلنا من المستحلفين عليهما، فلنبدأ أولاً بحمده الذي هو سبب للمزيد، ثم لنأخذ في القيام بأمره الذي هو على كل نفس رقيب عتيد، ولا ريب أن إصلاح العباد يسري إلى الأرض حتى تزكو بطونها وتنام عيونها، ويشترك في بركات السماء ساكنها ومسكونها، والأمر بذلك حمل إن لم تتوزعه الأكف ثقل على الرقاب، وإذا انتشرت أطراف البلاد فإنها تفتقر إلى مساعدة من مستنيب ومستناب، وقد اخترنا لمدينة فلانة رجلا لم نأل في اختياره جهدا، وقدمنا فيه خيرة الله التي إذا صدقت نيتها صادفت رشدا، وهو أنت أيها الشيخ فلان، فابسط يدك بقوة إلى أخذ الكتاب، وكن كحسنة من حسناتنا التي يرجح بها ميزان الثواب، وحقق نظرنا فيك فإنه من نور الله الذي ليس دونه حجاب. فتأمل كيف فعلت هذه الآية التي بنيت التقليد عليها، وهو من محاسن المبادي والافتتاحات.
وكذلك فعلت في موضع آخر، وهو مفتتح كتاب كتبته إلى شخص كلفته السفارة إلى مخدومه في حاجة عرضت، وهو: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} هذا القول تتبع آثاره، وتحمل عليه أنظاره، وأولى الناس بسيدنا من شاركه في لحمة أدبه، وإن لم يشاركه في لحمة نسبه، فإن المناقب أقارب والمآثر أواصر:
وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي ** إلا امرؤ كان ذا فضل وذا أدب

ونتيجة هذه المقدمة بعث خلقه الكريم على عوارف أفضاله، واستهداء صنيعة جاهه التي هي أكرم من صنيعة ماله، ولا تجارة أربح من هذه التجارة، والساعي فيها شريك في الكسب بريء من الخسارة.
وأما الأخبار النبوية فيسلك بها هذا المسلك: بأن يذكر الخبر في صدر الكتاب، ثم يبني عليه.
ولنذكر منها ولو مثالا واحدا، وهو توقيع كتبته لولد رجل من أصحاب السلطان توفي والده ونقل ما كان باسمه إليه، فقلت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فلورثته ومن ترك دينا أوكلا أو ضياعا فإلي وعلي» وهذا خلق من الأخلاق النبوية لا مزيد على حسنه، وأساليب المكارم بأسرها موضوعة في ضمنه، ونحن نرجو أن نمشي على أثره فنتنزل منزلة رديفة، أو أن نتشبه به فنبلغ مبلغ مده أو نصفيه، وقد أرانا الله ذلك في قوم صحبونا فأسعفناهم بمباغي الأنعام، وأحمدناهم صحبة الليالي والأيام، وتكفلنا أيتامهم من بعدهم حتى ودوا أن يكونوا هم الأيتام، وهذا فلان ابن فلان رحمه الله ممن كان له في خدمة الدولة قدم صدق، وأولية سبق، وحفظ كتاب المحافظة عليها فقيل له في تلاوته اقرأ وارق، ثم أنهيت التوقيع إلى آخره، فتأمل مفتتح هذا التوقيع فإنه تضمن نص الخبر من غير تغيير، وقد ضمنته بعض خبر آخر من الأخبار النبوية، وهو قوله: «اقرأ وارق» قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» وقد مثلت لك هاهنا أمثالا يقتدي بها، فاخذ حذوها، وامض على نهجها. والله الموفق للصواب.